اداب الكلام
الحمدُ لله رَبِّ العالَمين .. له النِّعْمَةُ وله الفضلُ ولهُ الثَّناءُ الحَسَن .. والصَّلاةُ والسَّلامُ على سَيِّدِنا محمَّد .. أمَّا بعدُ ، فقد قال الله تعالى في سورةِ محمَّد (( فاعلمْ أنه لا إلـٰـهَ إلَّا الله واستغفر لذنبك َ وللمؤمنينَ والمؤمنات )) ..
وثَبَتَ عند البخاريِّ أنَّ رسولَ الله ، صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، سُئِلَ :" أيُّ العَمَلِ أفضل ؟ " ، فقال :" إيمانٌ بالله ورسوله " ..
وفي روايةٍ عندَ النَّسَائِيِّ :" إيمانٌ لا شَكَّ فيه " ..
.
فالعِلْمُ بالله تعالى وصفاتهِ أجلُّ العلومِ ووأعلاها وأوجبُها وأَوْلاها لأنَّ شَرَفَ العِلْمِ بشَرَفِ المعلوم .. فلَمَّا كان عِلْمُ التوحيدِ يفيدُ معرفةَ الله على ما يَلِيقُ بهِ ومعرفةَ رسولهِ على ما يَلِيقُ بهِ وتنزيهَ الله عمَّا لا يجوزُ عليهِ وتبرئةَ الأنبياء عمَّا لا يَلِيقُ بهم كانَ أفضلَ من عِلْمِ الأحكام .. ولذلكَ قال سَيِّدُنا الإمامُ الشَّافِعِيُّ :" أحكمنا ذاكَ قبلَ هذا "(♣) .. معناهُ أَتْقَنَّا عِلْمَ التوحيدِ قبلَ أَنْ نُتْقِنَ فُرُوعَ الفِقْهِ .. وقال الإمامُ أبو حنيفةَ :" إعلمْ أَنَّ الفِقْهَ في الدِّينِ أَفْضَلُ من الفِقْهِ في الأَحْكام .. وأَصْلُ التوحيدِ وما يَصِحُّ الاعتقادُ عليه وما يَتَعَلَّقُ بالاعتقاديَّاتِ هو الفقهُ الأكبرُ "(♣♣) ..
--------------
(♣)أَخْرَجَهُ البَيْهَقيُّ في كتابه[(مناقب الشَّافِعِيِّ)/ج1/ص457].. والحافظُ أبو القاسمِ بنُ عَسَاكِرَ في كتابهِ[(تبيينُ كَذِبِ المفتري)/ص342]..
(♣♣)قاله في كتابهِ (الفِقْهُ الأبسط) ..
--------------
وإنما سُمِّيَ هذا العِلْمُ بعِلْمِ التوحيدِ لأَشْهَرِ مباحثهِ وهو توحيدُه تعالى في الذَّاتِ والصِّفاتِ والأفعالِ وعَدَمِ مشابهتهِ لشيءٍ من المخلوقاتِ .. ويُسَمَّى بعِلْمِ الأُصُولِ أيضًا لأنه أصلُ كُلِّ عِلْمٍ ومَنْشَأُ كُلِّ سعادة .. وقد خَصَّ النبيُّ ، صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، نفسَه بالترقِّي في هذا العِلْمِ فقال :" أنا أعلمُكم بالله " .. رواهُ البخاريُّ ..
فكان هذا العلمُ من أهمِّ العلومِ تحصيلًا وأحقِّها تبجيلًا وتعظيمًا .. وأمَّا قولُه تعالى (( فاعلمْ أنه لا إلـٰـهَ إلَّا الله واستغفر لذنبكَ وللمؤمنينَ والمؤمنات )) فإنَّ فيهِ تقديمَ الأمرِ بمعرفةِ التوحيدِ على الأمرِ بالاستغفار .. والسَّبَبُ فيهِ أنَّ معرفةَ التوحيدِ إشارةٌ إلى عِلْمِ الأُصُولِ أي الاعتقادِ والاشتغالَ بالاستغفارِ إشارةٌ إلى عِلْمِ الفُرُوعِ أي الأحكامِ ..
فهذه الآيةُ تَضَمَّنَتِ الحَثَّ على هذينِ العِلْمَيْنِ ، والأصلُ يجبُ تقديمُه على الفَرْعِ لأنه ما لم يُعْلَمْ وُجُودُ الخالقِ فلا فائدةَ للعبدِ من الاشتغالِ بطاعتهِ ..
ولذلكَ قال الإمامُ أبو الحَسَنِ الأشعريُّ :" أَوَّلُ ما يجبُ على العبدِ العِلْمُ بالله ورَسُولهِ ودِينهِ " ،
وقال أبو حامدٍ الغزاليُّ :" لا تَصِحُّ العبادةُ إلَّا بعد معرفةِ المعبود " ..
رَوَى هذَينِ الأثرَينِ أبو منصورٍ عبدُ القاهرِ البغداديُّ في كتابهِ (تفسير الأسماء والصِّفات) .
.
ومِمَّا يَدُلُّ على وجوب الإيمانِ بالله ورَسُولهِ قولُه تعالى في سورة الفتح (( ومَنْ لم يؤمنْ بالله ورسولهِ فإنَّا أعتدنا للكافرينَ سعيرا )) ..
ومِمَّا يدلُّ على أهمِّـيَّةِ الإيمانِ واشتراطهِ لقَبُولِ الأعمالِ الصَّالحةِ قولُه تعالى في سورة النساء (( ومَنْ يعملْ من الصَّالحاتِ من ذَكَرٍ أو أُنثى وهو مُؤْمِنٌ فأُولـٰـئكَ يَدْخُلُونَ الجنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ نَقِيرا )) .
وأمَّا قولُه تعالى في سورةِ الحُجُرات (( إنما المؤمنونَ الذينَ ءامنوا بالله ورَسُولهِ ثمَّ لم يرتابوا )) فهذه الآيةُ تفسيرٌ لكلمةِ مؤمن .. وقولُه تعالى (( لم يَرْتابوا )) معناه لم يَشُكُّوا .. والإيمانُ لا يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ في الله ورسولهِ ..
وموضوعُ هذا العِلْمِ النَّظَرُ أي الاستدلالُ بخَلْقِ الله تعالى لإثباتِ وجودِه وصفاتهِ الكماليَّة . وأمَّا تعريفُه فإنه عِلْمٌ يُتَكَلَّمُ فيهِ عن أسماء الله تعالى وصفاتهِ وأفعالهِ على قانون الإسلامِ لا على أصولِ الفلاسفةِ فإنهم تكلَّموا في حَقِّ الله وفي حَقِّ الملائكةِ وأنبياء الله اعتمادًا على مجرَّد النَّظَرِ والعقلِ فجعلوا العقلَ أصلًا للدِّينِ فلا يَتَقَيَّدُونَ بالتوفيقِ بين النَّظَرِ العقليِّ وبينَ ما جاء عن الأنبياء .
فإنْ قيل :" لم يُنْقَلْ أنه ، صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، عَلَّمَ أحدًا من أصحابهِ هذا العلمَ ولا عن أحدٍ من أصحابهِ أنه تعلَّم أو علَّم غيرَه وإنما حدثَ هذا العلمُ بعد انقراضِهم بزمانٍ فلو كانَ هذا العِلْمُ مُهِمًّا في الدِّينِ لكانَ أوْلَى بهِ الصَّحابةُ والتَّابعونَ " ،
قلنا :" مَنْ قال هذه المقالةَ وهو يعني أنَّ الصَّحابةَ لم يشتغلوا بمعرفةِ الله على ما يَلِيقُ بهِ من فَهْمِ صفاتهِ تفصيلًا وتوحيدِه وتنزيههِ عن صفاتِ الْمُحْدَثَاتِ والإقرارِ بصِحَّةِ رسالةِ مُحَمَّدٍ ومعجزاتهِ بدِلالةِ العقلِ بل أقرُّوا بذلكَ تقليدًا فهو جاهلٌ بالواقعِ ، وقد رَدَّ الله في كتابهِ الكريم على مَنْ قلَّد أباهُ في عبادةِ الأصنامِ بقولهِ في سورة الزُّخْرُف (( إنَّا وَجَدْنا ءاباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على ءاثارِهم مقتدون )) ، والأُمَّةُ هنا معناهُ الدِّين .
ذَمَّ الله تعالى المشركينَ على قولهِم إنَّا وَجَدْنا ءاباءَنا على دينٍ وإنَّا على ءاثارِهم مقتدون ، معناهُ إنَّ أولئكَ اقْتَدَوْا بآبائهم في إشراكِهم بغيرِ دليلٍ يقومُ على صِحَّةِ ذلكَ الدِّينِ . وهذا يُفْهَمُ منهُ أنَّ الاستدلالَ مطلوبَ . وقد حاجَّ النبيُّ ، صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، كثيرًا المشركينَ واليهودَ والنصارَى وذلكَ ممَّا لا يَخْفَى .
مَنْ قال هذه المقالةَ وهو يعني أنَّ الصَّحابةَ لم يَتَلَفَّظُوا بهذه العباراتِ التي اصطلحَ عليها أهلُ هذه الصِّناعةِ نحوَ الجَوْهَرِ والعَرَضِ والجائزِ والمُحَالِ والحَدَثِ والقِدَمِ والأزليَّة وغيرِها من العباراتِ التي اصطلحوا على استعمالِها ممَّا لم تكن معروفةً في عصرِ الصَّحابةِ فهذا مُسَلَّمٌ بهِ ولكنَّنا نُعارِض بمِثْلهِ في سائرِ العلومِ فإنه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ ولا عن أصحابهِ التَّلَفُّظُ بالنَّاسخِ والمنسوخِ والمُجْمَلِ والمتشابهِ وغيرِ ذلكَ ممَّا هو مستعمَل عند أهلِ التفسير ، ولا بالقياسِ والاستحسانِ والمُعَارَضَةِ والمُنَاقَضَةِ والرُّكْنِ والشَّرْطِ والسَّبَبِ والعِلَّةِ والمُسَبَّبِ وغيرِها ممَّا هو مُسْتَعْمَلٌ عند الفقهاء ، ولا بالجَرْحِ والتعديلِ والآحادِ والمشهورِ والمتواتِرِ والصَّحيحِ والغريبِ وغيرِ ذلكَ ممَّا هو مُسْتَعْمَلٌ عند أهلِ الحديثِ ، فهل لقائلٍ أن يقولَ يجبُ نَبْذُ هذه العلومِ لهذه العِلَّةِ ؟!!.. لا يَصِحُّ أنْ يقالَ إنَّ هذه العلومَ تُرْفَضُ ولا يُشْتَغَلُ بها لأنَّ الصَّحابةَ ما كانوا يَتَكَلَّمُونَ بهذه العبارات ، على أنَّ عصرَ النبيِّ ، صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، لم تظهر فيهِ الأهواءُ والبِدَعُ فلم تَدْعُ الحاجةُ إلى هذه الصَّنْعَةِ " ..
.
والرَّدُّ على أهلِ البِدَعِ بدأ قبلَ انقراضِ عصرِ الصَّحابةِ .. فقد رَدَّ عبدُ الله بنُ العبَّاسِ وابنُ عُمَرَ على المعتزلة .. ومِنَ التَّابعينَ مَنْ رَدَّ عليهِم كعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ والحَسَنِ بنِ مُحَمَّدِ ابنِ الحنفيَّةِ . وقد نشأت بعدَهم إلى عصرِنا فِرَقٌ ضَالَّةٌ كثيرةٌ فاحتيجَ إلى هذه الاصطلاحاتِ رَدًّا عليهم ودَفْعًا لِشُبَهِهِمْ . ومِنْ هنا نَفْهَمُ رَدَّ الإمامِ أبي حَنيفَةَ رضيَ الله عنه :" إنما مَثَلُهُمْ كأُناسٍ ليس بحضرتهِم من يقاتلُهم فما احتاجوا إلى إبرازِ السِّلاحِ ، وإنما مَثَلُنَا كأُناسٍ بحضرتهِم مَنْ يستبيحُ دماءَهم فاحتجنا إلى إبرازِ السِّلاح " ..
.
ومِمَّا وَرَدَ في بيانِ فضلِ العقيدةِ أنَّ النبيَّ ، صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، قال :" لا يدخلُ الجنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مسلمة " .. وهو حديثٌ مُتَّفَقٌ عليه .. وفي روايةٍ عند التِّرْمِذِيِّ :" مؤمنة " ..
وقال أيضًا :" والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيدِه لا يسمعُ بي أَحَدٌ من هذه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرَانيٌّ ثمَّ يموتُ ولم يُؤْمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ بهِ إلَّا كانَ من أصحابِ النَّار " .. رواه مسلمٌ في[(صحيحهِ)/كتاب الإيمان]..
ويُسَمَّى عِلْمُ العَقِيدَةِ بعِلْمِ الكلامِ لكَثْرَةِ المخالفينَ فيهِ من المنتسبينَ إلى الإسلامِ وطُولِ الكلامِ مَعَ كُلِّ طائفةٍ ليرتدِعوا عن اعتقاداتهِمُ الفاسدةِ ..
وقال بعضُ علماء أهلِ السُّـنَّة :" سُمِّيَ بعِلْمِ الكلامِ لأنَّ أكثرَ ما تَكَلَّمَ المتكلِّمونَ فيهِ كلامُ الله ، تباركَ وتعالى ، على غيرِ صَوَابٍ منهم وعلى صَوَابٍ مِنَّا " ..
.
وفي (التَّبْصِرَةِ البَغْدَادِيَّةِ) أنَّ أَوَّلَ متكلِّمي أهلِ السُّـنَّةِ من الفقهاء أبو حنيفةَ . وقد ألَّف في هذا العِلْمِ (الفِقْهَ الأكبرَ) و (الرِّسالةَ في نصرةِ أهلِ السُّـنَّة) . وقد ناظرَ الخوارجَ والرَّوافِضَ والقَدَرِيَّةَ والدَّهْرِيَّةَ وكانتْ دُعَاتهُمْ بالبَصْرَةِ فسافرَ إليها نَيِّفًا وعِشْرِينَ مَرَّةً وفَضَّهُمْ بالأدِلَّةِ الباهرةِ . وبَلَغَ في عِلْمِ الكلامِ أيْ عِلْمِ التوحيدِ إلى أنْ صار المشارَ إليهِ بينَ الأنامِ واقتفَى بهِ تلامذتُه الأعلام .
.
وعَنِ الإمامِ أبي عبدِ الله الصَّيْرَمِيِّ أنَّ الإمامَ أبا حنيفةَ كانَ مُتَكَلِّمَ هذه الأُمَّةِ في زمانهِ وفقيهَهم في الحلالِ والحرام .
.
واعلمْ بأنَّ ما وَرَدَ من ذَمِّ عِلْمِ الكلامِ عن الأئمَّةِ كالشَّافِعِيِّ وغيرِه فالمرادُ بذلكَ الكلامُ المذمومُ وليسَ المرادُ الكلامَ الممدوحَ . الشَّافِعِيُّ ذَمَّ الكلامَ الذي لأهلِ البِدْعَةِ كالمعتزلةِ والقَدَرِيَّةِ وأشباهِهم لأنهم تكلَّموا في ذاتِ الله وفي صفاتهِ وكلامهِ بالباطلِ . فالشَّافعيُّ وغيرُه من الأئمَّةِ الذينَ وَرَدَ عنهم ذَمُّ الكلامِ مُرادُهُمْ ما كانَ من كلامِ أهلِ البِدَعِ المنحرفينَ وليس مرادُهم كلامَ أهلِ السُّـنَّةِ والجماعةِ الذي قَرَّرُوهُ في معرفةِ الله تعالى ومعرفةِ صفاتهِ فإنَّ هذا حَقٌّ لأنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كانوا عليه . فالإمامُ الغزاليُّ أَوْرَدَ في كتابهِ (إحياء علوم الدِّين) بابًا خاصًّا في صفاتِ الله تعالى حتَّى إنه قال فيهِ :" وهذا ممَّا يجبُ تعليمُه للصِّغار " .. وكذلكَ سائرُ ما يَتَعَلَّقُ من أحكامِ العقيدةِ الأساسيَّةِ .. وقد مَرَّ أنه قال :" لا تَصِحُّ العبادةُ إلَّا بعد معرفةِ المعبود " .. وقد سَمَّى الإمامُ أبو حنيفةَ العِلْمَ الْمُتَعَلِّقَ بالله ورسولهِ الفِقْهَ الأكبرَ والعِلْمَ المتعلِّقَ بالأحكامِ الفِقْهَ الأصغرَ .. وقال الإمامُ ابنُ عساكر :" والكلامُ المذمومُ كلامُ أصحاب الأهواء فأمَّا الكلامُ الموافقُ للكتاب والسُّـنَّةِ المُوَضِّحُ لحقائقِ الأُصُولِ عند ظهورِ الفتنةِ فهو محمودٌ " ..